الحلم و الرفق و الصبر
البطش و أخذ الحقوق قهرًا و جبرًا من سمات الظلمة و أهل الجور و نبينا عليه
أفضل الصلاة و السلام أرسى قواعد العدل و النصرة لكل صاحب حق حتى ينال حقه
و يأخذه ، و قد سير صلى الله عليه و سلم ما منحه الله عز و جل من أمر و
نهي للخير و في سبيل الخير ، فنحن لا نخشى في بيته صلى الله عليه و سلم
مظلمة و لا بطشًا ، و لا تعديًا و لا نهبًا .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : « ما ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم
شيئًا قط بيده ، و لا امرأة و لا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله ، و ما
نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى
فينتقم لله تعالى » ( رواه احمد ) .
و عن أنس رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و
عليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي ، فجبذه بردائه جبذة شديدة ،
فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه و سلم وقد أثرت بها حاشية الرداء
من شدة جبذته ، ثم قال : « يا محمد ، مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت
إليه ، فضحك ثم أمر له بعطاء » ( متفق عليه ) .
و لما قفل رسول صلى الله عليه و سلم من غزوة حنين تبعه الأعراب يسألونه
فألجئوه إلى شجرة فخطفت رداءه ، و هو على راحلته ، فقال : « ردوا علي ردائي
، أتخشون علي البخل ؟ فقال : فوالله لو كان لي عدد هذه العضاة ( العُضُّ :
الشجر الغليظ يبقى في الأرض ) نعمًا لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلاً و
لا جبانًا و لا كذابًا » ( رواه البغوي في شرح السنة و صححه الألباني ) .
و من أنصع صور التربية و جميل التعليم ، الرفق في جميع الأمور و معرفة المصالح و درء المفاسد .
أخذت الغيرة الصحابة و هم يرون من يخطئ و تزل قدمه و سارعوا إلى الإنكار و
حق لهم ذلك ، و لكن الحليم الرفيق صلى الله عليه و سلم منعهم من ذلك لجهل
الفاعل و للضرر المترتب فكان الأولى ما فعله
الرسول صلى الله عليه و سلم .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه
ليقعوا فيه ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : « دعوه و أريقوا على بوله
سجلاً من ماء ، أو ذنوبًا من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ، و لم تبعثوا
معسرين » ( رواه البخاري ) .
و صبر الرسول على أمر الدعوة مدعاة إلى التأسي به و السير على نهجه ، و عدم
الانتصار للنفس ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه و
سلم : هل أتى عليك يوم كان أشد من أحد ؟ قال : « لقد لقيت من قومك ، و كان
أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد
كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت و أنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق
إلا و أنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت
فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال : إن الله تعالى قد سمع قول قومك
لك ، و ما ردوا عليك و قد بعثت إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم
فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ،
و أنا ملك الجبال ، و قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت ؟ إن شئت
أطبقت عليهم الأخشبين » ( الأخشبان : الجبلان المحيطان بمكة و الأخشب :
الجبل الغليظ . ) . فقال النبي صلى الله عليه و سلم : « بل أرجو أن يخرج
الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا » ( متفق عليه ) .
و بعض النفوس اليوم تتعجل أمر الدعوة و تأمل في حصد النتائج سريعًا ، و
الانتصار للنفس قدحًا في الدعوة و إخلاصها و لهذا فشلت بعض الدعوات لفشو
هذا الأمر بين أفرادها فأين الصبر و التحمل ؟!
و بعد سنوات طويلة و قع ما أمله الرسول صلى الله عليه و سلم بعد معاناة و صبر و طول جهاد .
و كيف يسامى خير من وطيء الثرى

و في كل باع عن علاه قصور

و كل شريف عنده متواضع

و كل عظيم القريتين حقير

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و
سلم يحكي نبيًا من الأنبياء صلوات الله و سلامه عليه ، ضربه قومه فأدموه و
هو يمسح الدم عن وجهه و يقول : « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » (
متفق عليه ) .
و ذات يوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في جنازة مع أصحابه
يهودي اسمه زيد بن سعنة ، يتقاضاه دينًا ، فأخذ بمجامع قميصه و ردائه ، و
نظر إليه بوجه غليظ ، و قال : يا محمد ألا تقضني حقي ؟ و أغلظ في القوم ،
فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه و نظر إلى زيد و عيناه تدوران في وجهه
كالفلك المستدير ثم قال : يا عدو الله ، أتقول لرسول الله صلى الله عليه و
سلم ما أسمع ، و تفعل ما أرى ؟! فوالذي بعثه بالحق لو لا ما أحاذر من لومه
لضربت بسيفي رأسك ، و رسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر إلى عمر في سكون و
تؤدة ثم قال : « يا عمر ، أنا و هو كنا أحوج إلى غير هذا ، أن تأمرني بحسن
الأداء ، وتأمره بحسن التباعة ، اذهب به يا عمر فأعطه حقه ، و زده عشرين
صاعًا من تمر » .
يقول زيد اليهودي لما زاده عمر عشرين صاعًا من تمر قال : ما هذه الزيادة يا
عمر ؟ قال عمر : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أزيدك مكان نقمتك
قال زيد : أتعرفني يا عمر ؟ قال : لا من أنت ؟ قال : زيد بن سعنة .
قال : الحبر ؟ " قلت : الحبر ، قال : فما دعاك أن فعلت برسول الله صلى الله
عليه و سلم ما فعلت ، و قلت له ما قلت ؟ قال زيد : يا عمر لم يكن له من
علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم حين
نظرت إليه إلا اثنين لم أخبرهما منه : هل يسبق حلمه جهله ، و لا تزيده شدة
الجهل عليه إلا حلمًا فقد اختبرتهما ، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله
ربا ، و بالإسلام دينًا و بمحمد صلى الله عليه و سلم نبيًا و أشهدك أن شطر
مالي صدقة على أمة محمد صلى الله عليه و سلم فقال عمر رضي الله عنه أو على
بعضهم فإنك لا تسعهم ، قال زيد : أو على بعضهم فرجع زيد اليهودي إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدًا
عبده و رسوله ، و آمن به و صدقه ( اخرجه الحاكم في مستدركه و صححه ) .
و نحن نتأمل الموقف و نهايته و الحوار الطويل فيه لعل لنا نصيبًا من التأسي
بقدوتنا محمد عليه الصلاة و السلام ، و الصبر على الناس و دعوتهم برفق و
حلم .
و تشجيعهم إذا أحسنوا و بث روح التفاؤل في نفوسهم عن عائشة رضي لله عنها
قالت : « اعتمرت مع النبي صلى الله عليه و سلم من المدينة حتى إذا قدمت مكة
، قلت : بأبي أنت و أمي يا رسول الله قصرت و أتممت ، و أفطرت و صمت ، قال :
« أحسنت يا عائشة » و ما عاب علي » ( رواه النسائي ) .
من كتاب يوم في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم
منقول