المسلسل الدرامي الذي استقى عنوانه من أغنية أم كلثوم وقصيدة أبي فراس الحمداني، "عصيّ الدّمع"، وحمل توقيع الكاتبة دلع الرحبي والمخرج حاتم علي، يستحق منّا وقفة تقدير. لا لأنه كان حريصاً، وبشكل لافت ونادر، على احترام عقل جمهوره وذائقته وعواطفه وأحاسيسه فحسب، ولكن لأنه أيضاً ــ وربما تكون تلك حالة غير مسبوقة في الأعمال الدراميّة العربيّة ــ، عمل على الزجّ بالمشاهد واحترام دوره كعنصر مشارك في اقتراحات الحلول.
لا تكمن أهميّة الخطاب الدرامي في مجرّد وضع اليد على المسائل الاجتماعيّة الشائكة، التي طرقها المسلسل بجرأة وعمق. ولكن أيضاً، في إيجاد المُعادل السردي، السمعي البصري، الذي يُشير إلى قدرة طاقم العمل المتآزرة في الوصول إلى أسلوبيّة سرديّة مُقنعة تحقق المتعة العقليّة والجماليّة معاً، دون فصلٍ تعسفي بينهما، ودون إفراط جمالي شكلاني يطمح للوصول إلى حالة من الإبهار الاستعراضي والإدهاش البصري، ركّزت عليه اقتراحات إخراجيّة أخرى في الإنتاج الدرامي السوري. فالعمل الذي نتطرق إليه هنا، يُحرِّض العين على الرؤية دون إفراط، والأذن على السماع دون هيمنةٍ لشريط الصّوت.
بالتأكيد أن العمل التلفزيوني الناجح يتحقق نتيجةً لتضافر جهود العاملين كمجموعٍ منسجم، لكن ذلك لا ينفي أنه يبدأ بنصّ ذكيّ يمثِّل المقترح الأساسي الأوّل للعمل الدرامي. فدلع الرحبي دخلت بهموم الكتابة التلفزيونيّة إلى صميم الحياة اليوميّة، لتطرق المشكلات التي يعانيها الشارع وتعانيها البيوت، وتمارس عمليّة نقديّة شاملة: نقد قانون الأحوال الشخصيّة، وتحديداً في بنوده التي تمسّ الأنثى بشكل خاص، وطرح المسألة بعيداً عن خطابٍ نسوي قاصر يختزل الصراع الاجتماعي إلى معركةٍ بين الذكورة والأنوثة، لتذهب إلى طرح المشاكل الجوهريّة للمرأة في بلد بلغت فيه مرتبة الجلوس على كرسي القضاء. مع الحرص على التقاط نماذج متنوِّعة من الشخصيّات النسائيّة، بقوتها وضعفها، بتحررها وتدينها، وبأحلامها الكسيرة. ونقد هذا القانون، يقود إلى نقد المؤسسة العدليّة بكاملها: بيروقراطيتها، تخلفها، دهاليزها التي تُفضي إلى دهاليز. وفي سياق العمليّة النقديّة، لا يتردد المسلسل في نقد الخطاب الديني التأويلي المتطرِّف، المنحرف عن جوهر الإسلام وسماحته الأولى، والذي يزج بالدين الحنيف في زوايا التعصُّب والتخلُّف والظلام.
ثمّة هموم ثقافيّة تنطوي عليها أحداث وشخصيات العمل، تطرُق إشكاليّة العلاقة بين الأصالة والكونيّة، بين رنّات العود من جهة، والأوركسترا السيمفونية من جهة أخرى. بين أم كلثوم ورياض السنباطي والقصبجي من جهة، وبتهوفن وبرليوز وباخ من جهة أخرى. وهي إشكاليّة لا تقوم بذاتها، وإنما في طريقة التعامل معها. فهي تتجاوز الاختلاف في الذائقة الموسيقيّة إلى التعبير عن أمراضٍ سلوكيّة ثقافيّة حقيقيّة. وفي طرح المشكلة، يعمل الخطاب السمعي البصري على تفكيك نموذج المثقف "العصري" المدّعي، المتعالي على خصوصيّة الثقافة الاجتماعيّة ورموزها وتعبيراتها، والمنحاز إلى معطيات الثقافة الغربيّة كبديلٍ قادر على أن يمنحه القشرة الـ "حضاريّة" التي يخفي بها ادعاءاته وهشاشة بنيته التكوينيّة الشخصيّة.
شخصيّة المثقف "العصري" المرتبكة، تقابلها شخصيّة المرأة العجوز، عاشقة العود وأم كلثوم، والتي تعترف أن أغنيات "الملكة" هي التي صاغت روحها ووجدانها، وما زالت تسند حنينها. هذه المرأة، تمثِّل واحدة من الشخصيات المتفرِّدة على الشاشة العربيّة الصغيرة. فهي متفردة في تمردها وامتثالها، في تدينها وانفتاحها، في عقلها وعواطفها، وحتّى في موتها الجميل الذي استقبلته بطقسٍ يليق بلحظة الرحيل الأخير، ويمنح الموت جلالاً وأبهة، في مشهدٍ مؤثِّرٍ وغير مسبوق، يليق بمثل هذه الشخصيّة التي ظلّت في حياتها تعشق الطقوس.
والمخرج الذي تلقّى النصّ الذكيّ، تمكّن في أسلوب سرده الدرامي من تحقيق التوازن الدقيق بين بساطة السّرد وعمقه في آنٍ معاً، نائياً بذلك عن الإفراط في إبراز القيمة الجماليّة البصريّة على حساب الخطاب المضموني. ومع أن هذا الخطاب فرض سطوته على العديد من المشاهد، التي تراجعت عن المستوى الفني للعمل وتحوّلت إلى مداخلات فكريّة تقارب الخطاب الذهني التعليمي المجرّد والمباشرة، فإن مثل هذا التنازل وجد مبرراته في كون المسلسل لم يخفِ هدفه المُعلن، بإشاعة الوعي القانوني والشرعي التنويري.
جماليات الكادر وحركة الكاميرا واللّقطة والمشهد، لا تغوي حاتم علي لذاتها، وإنما لقيمتها التـأثيريّة. فالكادر الذي يلتقط دمشق من قمّة قاسيون، من زوايا مختلفة، لا يمنح فرصة الإشارة إلى الزمان فحسب، وإنما أيضاً إلى بانوراما المكان الذي تخرج منه الحكايات. وشذرات الأحاديث والأصوات التي تأتي من كوادر ثابتة لبيوتٍ مختلفة تبثُّ هموماً غامضة، ليست مجرّد مسألة تغريبيّة خارجة عن السياق، فهي تُسهم في تعزيز القناعة بواقعيّة الأحداث التي يمنحها المكان. وواقعيّة الشخصيات التي تتحرّك أمامنا، والهموم المتوازية والمتداخلة التي تعيشها وتتناوب عليها بتوازن مقنع في السرد، لا تكتفي بآليّة القطع ثم الانتقال إلى المشهد التالي وحسب، وإنما أيضاً في حركة كاميرا حُرّة يمكن أن تتوقف عن متابعة إحدى الشخصيّات، لتتابع شخصيّة أخرى تمرّ عرضاً من جانب الأولى يلعب هنا دوراً دالاً قد يُعمِّق وحدة الهموم لدى الشخصيات عبر توحدها في مشهدٍ لا ينقطع.
ولا يغفل حاتم علي الحضور الكاسح للتلفاز في بيوتنا وحياتنا اليوميّة. فهو يستثمر ما يبثه هذا الجهاز من مادة تتنوّع بين الأخبار السياسيّة وعروض الأزياء المعولمة والفيديو كليب، ما يُكرِّس الأجواء الواقعيّة التي تغوص بعيداً في التفاصيل. دون أن يغيب عنه ما يزخر به شريط الصوت من مادة تُجاوِر الحوار والموسيقى التصويريّة، حيث يعمد إلى التقاط الأغاني المتداخلة مع نشرات الأخبار في المذياع .
وتبقى الميزة الأساسيّة للمسلسل، تكمن في أنه أقام بنيته الدراميّة على توازن دقيق لافت لا تنتفي فيه التفاصيل الدّالة، سواء في الشخصيات أو الأحداث، أو ما بين الخطاب الفكري والخطاب الجمالي وتوحدهما في لغة سرديّة متماسكة وقادرة على التواصل مع متفرِّج يتنازل طوعاً عن أحد عناصر المسلسل التقليدي، القائم على حبس الأنفاس، واستبداله بالعلاقة الحميمة التي يبنيها ويطوِّرها يومياً مع شخصيات العمل الدرامي.
أمام هذا الفيض من المشكلات، لا تدّّعي كاتبة النصّ، ولا يدعي المخرج، أنهما يمتلكان الحلول السحريّة. غير أنهما، في النهايات التي أبقيا فيها على الاحتمالات والخيارات مفتوحة، تركا للمتابع مساحة للمشاركة في اقتراح الحلول. فالمُشاهد هنا يتجاوز كونه متفرِّجاً مكتفياً بمتعة التلقي السلبي، إذ يتخلّى، مُرغماً أو بإرادته الحُرّة، عن كسله الذهني الذي تفترضه فيه مسلسلات الاستهلاك التلفزيوني، ليزجّ بنفسه في الحوار الخلاّق، ويطلق العنان لخياله، من أجل رؤية الحلول.. وبلوغ النهايات