§§][][ سراقة بن مالك صاحب سواري كسرى وتحقق نبوءة النبى محمد ][][§§

هو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي الكناني ، يكنى أبا سفيان

وكان فارسا من فرسان قومه ، طويل القامة ، عظيم الهامة ،

بصيرا باقتفاء الأثر ، صبورا على أهوال الطرق ، وكان إلى ذلك

أريبا ، لبيبا ، شاعرا ، وكان يقيم في قديد ( موضع قرب مكة ) .



§§][][ الجائزة ][][§§

حينما مكرت قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم وأجمعت على قتله ،

خرج مع صاحبه ابوبكر الصديق رضي الله عنه مهاجرا إلى المدينه ،

فبثت قريش عيونها في سبل مكة وشعابها بحثا عنهما، فنفضوا

الصحراء نفضا فما وقعوا له على اثر .

وحينما يئست قريش أن تقبض على النبي صلى الله عليه وسلم وضعت

جائزة مائة رأس من الإبل لمن يأتيها بمحمد صلى الله عليه وسلم

حيا أو ميتا ، وسراقة بن مالك رضي الله عنه كان في بعض أندية

قومه قريبا من مكة ، فإذا برجل يدخل عليهم ، ويذيع فيهم نبأ الجائزة ،

فما كاد سراقة رضي الله عنه يسمع بالنوق المائة حتى سال لعابه ،

واشتد عليها حرصه ، ولكنه كان ذكيا جدا ، فضبط نفسه ، ولم يفه

بكلمة واحدة حتى لا يلفت نظر الآخرين ، وقبل أن ينهض

سراقة رضي الله عنه من مجلسه ، دخل على مكان وجوده رجل

يقول :

واللهِ لقد مر بي الآن ثلاثة رجال ، وإني لأظنهم محمدا وأبا بكر

ودليلهما .

فقال سراقة رضي الله عنه :

( إنهم بنو فلان مضوا يبحثون عن ناقة لهم أضلوها )

يريد أن يصرف الناس عن هذه الجائزة ، فقال الرجل :

لعلهم كذلك ، وسكت .. مكث سراقة رضي الله عنه قليلا حتى لا يثير

اهتمام أحد ، فلما دخل القوم في حديث آخر انسل من بينهم ، ومضى

خفيفا مسرعا إلى بيته ، وأسر لجاريته بأن تخرج له فرسه في غفلة

من أعين الناس ، وأن تربطه له في بطن الوادي ، وأمر غلامه

بأن يعد له سلاحه ، وأن يخرج به خلف البيوت حتى لا يراه أحد ،

وأن يجعل السلاح في مكان قريب من الفرس ، ولبس سراقة رضي

الله عنه درعه ، وتقلد سلاحه ، وركب صهوة فرسه ، وطفق يغذ

السير ليدرك محمدا صلى الله عليه وسلم قبل أن يدركه أحد سواه ،

ويظفر بجائزة قريش .



§§][][ عثرات الفرس ][][§§

ومضى سراقة رضي الله عنه يطوي الأرض طيا ، لكنه ما لبث

أن عثرت به فرسه وسقط عن صهوتها ، فتشاءم ، وقال :

( ما هذا ؟ تبا لكِ من فرس )

وعلا ظهرها ، غير أنه لم يمضِ بعيدا حتى عثرت به مرة

أخرى ، فازداد تشاؤما ، وهم بالرجوع ، فما رده عن همه إلا طمعه

بالنوق المائة ، فلم يبتعد سراقة رضي الله عنه كثيرا عن مكان

عثور فرسه حتى أبصر محمدا صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي

الله عنه ، فمد يده إلى قوسه ، ولكن يده جمدت في مكانها .

ثم رأى قوائم فرسه ساخت في الأرض ، فدفع الفرس فإذا هي

قد ساخت ثانية في الأرض ، كأنما سمرت بمسامير من حديد ،

فالتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وقال بصوت ضارع ،

وقد أدرك لا بعقله ولكن بفطرته أن خالق الكون مع محمد صلى الله

عليه وسلم ، فالتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي

الله عنه وقال بصوت ضارع :

( يا هذان ادعوا لي ربكما أن يطلق قوائم فرسي ولكما علي أن أكف

عنكما )

فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فأطلق الله له قوائم فرسه فأطلقت .



§§][][ سواري كسرى ][][§§

تذكر سراقة رضي الله عنه المائة ناقة ، فما لبثت أطماعُه أن تحركت

من جديد ، فدفع فرسه نحوهما فساخت قوائمها هذه المرة أكثر من

ذي قبل ، وهذه للنبي معجزة ، ولغيره من المؤمنين كرامة .

فاستغاث بهما للمرة الثانية وقال :

( إليكما زادي ، ومتاعي ، وسلاحي ، ولكما علي عهد الله أن أرد

عنكما من ورائي من الناس )

فقالا له : ( لا حاجة لنا بزادك ، ومتاعك ، ولكن رد عنا الناس )

ثم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فانطلقت فرسه ، فلما هم بالعودة

ناداهم قائلا :

( تريثوا أكلمكم ، فوالله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه )

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما تبتغي منا ؟ "

فقال رضي الله عنه :

( والله يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر دينك ، ويعلو أمرك فعاهدني

إذا أتيتك في ملكك أن تكرمني ، واكتب لي بذلك ، أريد وثيقة )

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصديق رضي الله عنه فكتب له

على لوح عظم ، ودفعه إليه ، ولما هم بالانصراف قال له النبي صلى

الله عليه وسلم ، ويبدو أن هذا وحي من الله ، قال له :

( كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ؟ )

فقال سراقة رضي الله عنه في دهشة : ( كسرى ابن هرمز ؟ )

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم كسرى بن هرمز "



§§][][ وفاءه بالعهد ][][§§

هذه المرة أصبح سراقة رضي الله عنه وفيا ، وعاد أدراجه ، فوجد

الناس قد أقبلوا ينشدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم

ارجعوا فقد نفضت الأرض نفضا بحثا عنهم ، فلا تغلبوا أنفسكم ،

لم أعثر على أحد ، وأنتم لا تجهلون مبلغ بصري بالأثر ، فرجعوا ،

ثم كتم خبره مع محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه حتى أيقن أنهما

بلغا المدينة ، وأصبحا في مأمن من عدوان قريش ، عند ذلك أذاع

الخبر ، فلما سمع أبو جهل بخبر سراقة رضي الله عنه مع النبي صلى

الله عليه وسلم ، وموقفه منه لامه على تخاذله ، وعنفه ، وعنف جبنه ،

وتفويته الفرصة ، فقال يجيبه على ملامته :

أبا حكم والله لو كنت شاهدا --- لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه

علمت ولم تشكك بأن محمدا --- رسـول برهان فمن ذا يقاومه

عليك بكف القوم عنـه فإنني --- أرى أمـره يوما ستبدو معـالمه



§§][][ إسلامة ][][§§

دارت الأيام ، وبعد أن خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة

طريدا ، شريدا ، مستترا بجنح الظلام ، عاد إليها سيدا ، فاتحا ،

تحف به الألوف المؤلفة من بيض السيوف ، وإذا بزعماء قريش

الذين ملؤوا الأرض عنجهية ، وغطرسة ، وكبرا ، واستعلاء ،

يقبلون على النبي صلى الله عليه وسلم خائفين واجفين ، يسألونه الرأفة ..

عند ذلك أعد سراقة بن مالك رضي الله عنه راحلته ، ومضى إلى النبي

صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه ، ومعه العهد الذي كتبه

له قبل عشر سنوات ، قال سراقة رضي الله عنه :

( لقد أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ، فدخلت في كتيبة

الأنصار ، فجعلوا يقرعونني بكعوب الرماح ويقولون :

إليك إليك ، ماذا تريد ؟

فما زلت أشق صفوفهم حتى غدوت قريبا من رسول الله صلى الله

عليه وسلم ، وهو على ناقته فرفعت يدي بالكتاب ، وقلت :

يا رسول الله أنا سراقة بن مالك ، وهذا كتابك لي ، فقال عليه الصلاة

والسلام :

" يوم وفاء وبر، ادن ، ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا

عهد له "

فأقبلت عليه ، وأعلنت إسلامي بين يديه ، ونلت من خيره ، وبره )

ولم يمضِ على لقاء سراقة بن مالك رضي الله عنه برسول الله صلى

الله عليه وسلم غير زمن يسير حتى اختار الله نبيه صلى الله عليه وسلم

إلى جواره ، فحزن سراقةرضي الله عنه أشد الحزن ، وجعل يتراءى له

ذلك اليوم الذي هم بقتله ، من أجل مائة ناقة ، وكيف أن نوق الدنيا كلها

قد أصبحت اليوم لا تساوي عنده قلامة من ظفر النبي صلى الله

عليه وسلم .



§§][][ تحقق نبوءة النبي ][][§§

جعل سراقة رضي الله عنه يردد مقولة النبي صلى الله عليه وسلم له :

" كيف بك يا إذا لبست سواري كسرى "

دون أن يخامره شك في أنه سيلبسهما ، ثم دارت الأيام دورتها كرة

أخرى ، وآل أمر المسلمين إلى الفاروق رضي الله عنه ، وهبت جيوش

المسلمين في عهده المبارك على مملكة فارس ، فطفقت تدك الحصون ،

وتهدم الجيوش ، وتهز العروش ، وتحرز الغنائم ، وفي ذات يوم من

أواخر أيام خلافة عمر رضي الله عنه قدم على المدينة رسل سعد بن

أبي وقاص رضي الله عنه يبشرون خليفة المسلمين بالفتح ، ويحملون

إلى بيت مال المسلمين خمس الفيء الذي غنمه الفاتحون ، فلما وضعت

الغنائم بين يدي عمر رضي الله عنه نظر إليها في دهشة ، فقد كان فيها

تاج كسرى المرصع بالدر ، وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب ، ووشاحه

المنظوم بالجوهر ، وسواراه اللذان لم تر العين مثلهما قط ، ومالا حصر

له من النفائس الأخرى ، فجاء عمر رضي الله عنه يقلب هذا الكنز

الثمين بقضيب كان بيده ، ثم التفت إلى من كان حوله ، وقد

اغرورقت عيناه بالدموع ، وإلى جانبه علي بن أبى طالب رضي الله

عنه فقال له : ( ما الذي يبكيك ؟ )

فقال رضي الله عنه :

( إن قوما أدوا هذا لأمناء حقا ، تاج كسرى ثمنه مئات الملايين ، لو أن

هذا الذي أخذه ذهب به إلى أنطاكية لعاش أغنى الأغنياء )

فأجابه علي رضي الله عنه بكلمة لا تنسى مدى الحياة قال له :

( يا أمير المؤمنين ، لقد عففت فعفوا ، ولو وقعت لوقعوا )



§§][][ تقلده سواري كسرى ][][§§

دعا الفاروق رضي الله عنه سراقة بن مالك رضي الله عنه فألبسه

قميص كسرى ، وسراويله ، وقباءه ، وخفيه ، وقلده سيفه ، ومنطقته ،

ووضع على رأسه تاجه ، وألبسه سواريه ، عند ذلك هتف المسلمون :

الله أكبر الله أكبر ، لقد تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم

ثم التفت عمر إلى سراقة رضي الله عنهما وقال له :

( بخ بخ يا سراقة أعرابي من مدلج على رأسه تاج كسرى ، وفي يديه

سواراه ثم رفع عمر رضي الله عنه رأسه إلى السماء ، وقال :

( اللهم إنك منعت هذا المال لرسولك ، وكان أحب إليك مني ، وأكرم

عليك ، ومنعته أبا بكر ، وكان أحب إليك مني وأكرم عليك ، وأعطيتنيه ،

وأعوذ بك أن تكون قد أعطيتنيه لتمكر بي )

ثم لم يقم من مجلسه حتى قسمه بين فقراء المسلمين .


روى سراقة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم

عدة أحاديث ومات سنة أربع وعشرين للهجرة
_____________